عدد الرسائل : 124 العمر : 31 تاريخ التسجيل : 08/09/2008
موضوع: المباهلة.. الواقعة الفصل الأربعاء سبتمبر 10, 2008 1:25 am
المباهلة.. الواقعة الفصل
حقيقة
السيّد المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام، نبيّ الله الذي دعا إلى توحيد الله تبارك وتعالى، وأمر بعبادة الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد. لكن، جاء مِن بعده مَن مزج الدين المسيحيّ بعقائد غريبة، كالثالوث المقدّس أو الأقانيم الثلاثة:
الأب، والابن، وروح القُدس.. فابتعد الوضع الكَنَسيّ عن النصرانيّة الحقيقيّة التي جاء بها السيّد المسيح عليه السّلام. حتّى إذا بُعث النبيّ الأكرم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان المسيح عيسى عليه السّلام قد بشّر به ودعا إلى الإيمان به، وقد وصف شمائله المباركه لهم.. تنكّر الكثير منهم، لا لرسول الله فحَسْب، بل حتّى للسيّد المسيح عليه السّلام إذ أوصاهم به، حيث نقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى:
وإذْ قالَ عيسى بنُ مريمَ يا بَني إسرائيلَ إنّي رسولُ اللهِ إليكم مُصدِّقاً لِما بينَ يدَيَّ مِن التَّوراةِ ومُبَشِّراً برسولٍ يأتي مِن بَعدي اسمُهُ أحمدُ فلمّا جاءَهُم بالبَيِّناتِ قالوا هذا سِحرٌ مُبين (1).
ولمّا جاءَ هم كتابٌ مِن عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُم وكانوا مِن قَبلُ يَستَفتِحونَ على الذين كفروا فلمّا جاءَ هم ما عَرَفوا كَفَروا به (2).
الذين آتيناهُمُ الكتابَ يَعرِفونَهُ كما يَعرِفون أبناءَهُم وإنّ فريقاً مِنهم لَيكتُمون الحقَّ وهم يَعلمون (3).
الذين آتيناهُمُ الكتابَ يَعرِفونَهُ كما يَعرِفون أبناءَ هُم الذينَ خَسِروا أنفُسَهم فهُم لا يُؤمنون (4).
وقد سئل عبدالله بن سلاّم:
هل تعرفون محمّداً في كتابكم ؟ فقال:
نعم والله، نعرفه بالنَّعت الذي نَعَته الله لنا إذا رأيناه فيكم كما يَعرِف أحدُنا ابنَه إذا رآه مع الغِلمان.. والذي يحلف به ابنُ سلاّم، لأنا بمحمّدٍ هذا أشدُّ معرفةً منّي بابني!
ومع ذلك.. اعترض الكثير من النصارى على رسالة الإسلام، فضلاً عن عدم الانتماء إليها تلبيةً للدعوة الإلهيّة، فيما تبنّى البعض مجابهتها ومحاولة القضاء عليها. إلاّ أنّ الإسلام بيّنَ الحقائق ودعا العقول إلى التفاهم والمناقشة، وإلى عرض الأدلة والبراهين، والاتّفاق على المشتركات الأساسيّة على أقلّ الفروض، فجاء في الكتاب العزيز قوله تعالى:
قُلْ يا أهلَ الكتابِ تعالَوا إلى كلمةٍ سَواءٍ بينَنا وبينَكُم.. ألاّ نَعُبَد إلاّ اللهَ ولا نُشرِكَ به شيئاً، ولا يتَّخِذَ بعضُنا بعضاً أرباباً مِن دونِ الله، فإنْ تولَّوا فاشهَدوا بأنّا مُسلمون (5). وبدلاً من أن تلقى هذه الدعوة الإلهيّة الكريمة سروراً وانشرحاً في الصدور.. ذعر الأساقفة ذعراً شديداً، واهتزّت «نَجْران» اهتزازاً عنيفاً، فعُقد مؤتمر عامّ هناك اجتمع فيه رؤساؤهم وأهل الرأي منهم، فقرّروا أن يُجهَّز
السيّد والعاقب والأسقف، ومعهم أربعة عشر راكباً من نصارى نجران وسبعون من أشراف بني الحرث بن كعب وساداتهم، فتوجّهوا إلى المدينة ليحاججوا: كيف يكون المسيح بشراً ؟!
وكان اللقاء
أقبل القوم حتّى دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله في مسجده، فإذا حانت صلاتهم ضَربوا ناقوسهم في المسجد وقاموا يصلّون إلى المشرق، فأراد الناس نهيهم عن ذلك، إلاّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كَفَّهم، ثمّ أمهلهم ثلاثاً، فلم يسألوهڈڈ لينظروا كيف هَديُه.. فلمّا انقضت ثلاثة أيّام دعاهم إلى الإسلام، فقالوا:
يا أبا القاسم، ما أخبرَتْنا كتبُ الله عزّوجلّ بشيء من صفة النبيّ المبعوث مِن بعدِ الرُّوح عيسى عليه السّلام، إلاّ وقد تعرّفناه فيك، إلاّ خلّةً هي أعظم الخلالِ آيةً ومَنزلة، وأجلاها أمارةً ودلالة!
قال: وما هي؟
قالوا:
إنا نجد في الإنجيل صفة النبيّ مِن بعد المسيح أنّه يصدّق به ويؤمن به، وأنت تَسبُّه وتكذّبه، وتزعم أنّه عبد! قال : بل أُصدّقه وأُصدّق به،
وأُؤمن به، وأشهد أنّه النبيّ المرسل من ربّه عزّوجلّ، وأقول:
إنه عبد لا يملك نفعاً ولا ضرّاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
قالوا:
وهل تستطيع العبيد أن تفعل ما كان يفعل ؟! ألم يكن يُحيي الموتى ويُبرئ الأكمه والأبرص، ويُنبّئهُم بما كانوا يُكنّون في صدورهم، وما يَدّخرونه في بيوتهم ؟! فهل يستطيع هذا الأمرَ إلاّ الله، أو ابن الله ؟! قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: قد كان عيسى أخي كما قلتم.. يُحيي الموتى ويُبرئ الأكمهَ والأبرص، ويُخبر قومه بما في نفوسهم وبما يدّخرون في بيوتهم، وكلّ ذلك بإذن الله عزّوجلّ، وهو عبدٌ لله، غير مستنكِف. قالوا: فأرِنا مِثلَه جاء من غير أب! قال: هذا آدم عليه السّلام أعجَب منه خَلقاً، من غير أبٍ ولا أُمّ، وليس شيء من الخلق بأهون على الله عزّوجلّ في قدرته من شيء ولا أصعب، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن، فيكون. إنّ مثَلَ عيسى عندَ اللهِ كمَثَلِ آدمَ خَلَقَه مِن تُرابٍ ثُمّ قالَ له كُنْ فيكون (6).
فمَن حاجَّك فيه مِن بَعدِ ما جاءكَ مِن العِلمِ فقُلْ تعالَوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفُسَنا وأنفُسَكُم ثمّ نَبتَهِلْ فنجَعلْ لَعنةَ اللهِ علَى الكاذبين (7). فتلا رسول الله صلّى الله عليه وآله ذلك عليهم، وقال:
إنّ الله أمرني أن أصير إلى مُلتَمسكم، وأمرني بمباهلتكم إنْ أقَمتُم وأصرَرتُم على قولكم . قالوا: ذلك آيةُ ما بَينَنا وبَينَك، وإذا كان الغدُ باهَلْناك. ثمّ انصرفوا إلى أماكنهم. الموقف الحاسم استيقظت الميدنة في صبيحة اليوم الرابع والعشرين من ذي الحجّة، ماسحةً عن عينها فترة الكرى، وباسطةً يدها تحت السماء، إلاّ أنّ الأرض كانت واجفة، والشمس كاسفة، والسحب داكنة.
إنّه يوم مفاجآت كبرى، ومواقف حازمة وحاسمة.. بل هو يوم سيكون مشهوداً على مدى الأجيال وامتداد الزمن، لا شبيه له ولا مثيل، حيث ستكون فيه المباهلة.. ولكن: ما معنى المباهلة يا تُرى ؟
في اللغة:
باهلَ بعضُهم بعضاً، أي اجتمعوا فتداعَوا وعَرَض كلٌّ دَعواه، فاستَنزَلوا لعنة الله على الظالم منهم أو الكاذب. وفي أخبار التاريخ ورواياته: يظهر أنّ المباهلة كانت جارية في الاُمم السابقة، ولها اُصولها وسننها، حتّى ذكر الأسقف قائلاً: جثا واللهِ محمّدٌ كما يجثو الأنبياء عليهم السّلام للمباهلة. أمّا وقتها، فيقول الإمام أبو جعفر الباقر عليه السّلام مبيّناً له: الساعة التي تُباهل فيها ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس (. إنّها ـ على أيّة حال ـ مُلتقىً فيه القول الفصل. أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله بشجرتين كُسِرَتا وكُسِح ما بينهما، ثمّ أمر بكساءٍ أسودَ رقيقٍ فنُشِر عليهما على هيئة الخيمة، وخرج السيّد والعاقب بوَلَدَيهما وعليهما من الحُليّ والحُلَل.. وتقدّما:
ـ يا أبا القاسم، بمَن تُباهِلُنا ؟
ـ أُباهلكم بخير أهل الأرض وأكرمهم على الله.. هؤلاء. وأشار إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم. ـ ما نراك جئت لِتُباهلنا بالكبَر ولا الكثر، ولا أهل الشارة ممّن نرى ممّن آمن بك واتّبعك! وما نرى هنا معك إلاّ هذا الشابّ والمرأة والصبيَّين، أبهؤلاء جئتنا نباهلُك ؟!
ـ أجل.. بهؤلاء، وهم خير أهل الأرض وأفضل الخلق. وهنا اصطكّت أسماع النصارى وارتعدوا، كأنّما الأرض تريد أن تَسيخ بهم، فرجعوا إلى أسقفهم، فلمّا اختَلَوا قالوا للعاقب ـ وكان ذا رأيهم:
يا عبدَ المسيح، ما ترى ؟ فقال:
ـ والله لقد عَرَفتم ـ يا مَعشرَ النصارى ـ أنّ محمّداً نبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم. واللهِ ما باهَلَ قومٌ نبيّاً قطّ فعاش كبيرهم، ولا نَبَت صغيرهم. ولئن فعلتم لَتهلكُنّ، فإن أبيتُم إلاّ إلْفَ دِينكم والإقامةَ على ما أنتم عليه، فوادِعوا الرجلَ وانصَرِفوا إلى بلادكم. وقال لهم:
إنّما عهدكم بإخوانكم حديث، وقد مُسِخوا قِردةً وخنازير.. لا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة! وأتوا رسولَ الله صلّى الله عليه وآله، وقد كان محتضناً الحسينَ عليه السّلام آخِذاً بيد الحسن عليه السّلام، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ خلفها عليهما السّلام، وهو صلّى الله عليه وآله يقول:
إذا دَعوتُ فأمِّنوا. فقال أسقفُ نجران:
يا مَعشَر النصارى، إنّي لأَرى وجوهاً.. لو شاء الله أن يُزيلَ جبلاً من مكانه لأَزاله بها، فلا تُباهلوا فتَهلِكوا. فقالوا : يا أبا القاسم، رأيُنا أن لا نُباهلك، وأن نُقِرَّك على دينك ونَثبُت على ديننا.
فقال:
فإن أبيَتُم المباهلة فأسلِموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فأبَوا.. ثوابت وقد ذَكرَت هذه الواقعةَ عشراتُ عيون المصادر الإسلامية في التفسير والحديث والسيرة والتاريخ، منها:
صحيح مسلم، سنن الترمذيّ، مسند ابن حنبل، تفسير الطبريّ (جامع البيان)، أحكام القرآن (للجصّاص)، المستدرك على الصحيحن (للحاكم)، معرفة علوم الحديث (للحاكم النيسابوريّ)، دلائل النبوّة (لأبي نعيم)، مصابيح السنّة (للبغويّ)، العمدة (لابن بطريق)، التفسير الكبير (للفخر الرازيّ)، جامع الاُصول (لابن الأثير)، الشفا بتعريف حقوق المصطفى (للقاضي عياض)، المناقب (للخوارزميّ)، الكامل في التاريخ (لابن الأثير)، ذخائر العقبى (للمحبّ الطبريّ)، الرياض النضرة (للمحبّ الطبريّ)، أنوار التنزيل (للبيضاويّ)، أُسد الغابة (لابن الأثير)، تفسير القرطبيّ، مطالب السَّؤول (لابن طلحة الشافعيّ)، تذكرة خواصّ الأمّة (لسبط ابن الجوزيّ)، البداية والنهاية (لابن كثير)، البحر المحيط (لأبي حيّان)، الإصابة (لابن حجر)، الفصول المهمّة (لابن الصبّاغ المالكيّ)، الدرّ المنثور (للسيوطيّ)، الصواعق المحرقة(لابن حجر)، السيرة الحلبيّة (للحلبيّ الشافعيّ)، نور الأبصار (للشبلنجيّ)، تفسير روح المعاني (للآلوسيّ)، السيرة النبويّة (لابن دَحلان)، تفسير المنار (لرشيد رضا)، تفسير الجواهر (للطنطاويّ)... وغيرها كثير، ذكرت الواقعة بنحوٍ من الأنحاء، تفصيلاً أو إجمالاً، إطناباً أو اختصاراً، عرضاً أو تحليلاً واستدلالاً.
إضاءات
• أجمع المفسّرون والمحدّثون والمؤرّخون..
على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يَدعُ للمباهلة إلاّ عليّاً وفاطمة والحسنين عليهم السّلام، وهم خاصّته وحامّته وأهل بيته. فاستدلّ النصارى بذلك على اطمئنانه بعقيدته ونبوّته، ولولا ذلك لمَا باهلَ بأعزّةِ أعزته، بل لباهل بأصحابه.
• أجمع المفسرون وغيرهم أنّ الذي عَنَته الآية من كلمة «نساءَنا» في الآية الشريفة هي فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، و «أبناءَنا» هما الحسن والحسين عليهما السّلام، و «أنفسَنا» هو أمير المؤمنين عليه السّلام؛ إذ هو نفس النبيّ صلّى الله عليه وآله ـ كما أيدّت ذلك روايات عامّة وخاصة، منها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله ذكر جماعة، فسأله عمرو بن العاص: فأين عليّ ؟ فالتفتَ إلى أصحابه وقال: إنّ هذا يسألني عن النَّفْس! (9).
• لعلّ قصّة المباهلة من أشهر قصص الرسالة الإسلاميّة، فهي ثابتة صحيحة مسلمّة في أخبار مصادر المسلمين، مُجمَعٌ عليها لا خلاف فيها.. حتّى قال الفخرالرازيّ ـ وهو يُدعى بشيخ المشكّكين وإمامهم ـ: هذه الرواية كالمتَّفق على صحّتها بين أهل الحديث والتفسير.
• تُعدّ هذه الآية المباركة من فضائل ومفاخر ومناقب أهل البيت عليهم السّلام التي لا يمكن لأحد أن يغضّ طَرْفه عنها. ولذا ـ كما يقول ابن حجر في الصواعق ـ: احتجّ بها عليّ عليه السّلام يوم الشورى على أهل الشورى، قائلاً: اُنشِدكمُ بالله، هل فيكم أحد جعله اللهُ نَفْسَ النبيّ، وأبناءَ ه أبناء ه، ونساء ه نساءَ ه.. غيري ؟! قالوا: اللهمّ لا. ولمّا سأل المأمون عن أكبر فضيلة لأمير المؤمنين عليه السّلام يدلّ عليها القرآن، أجابه الإمام الرضا عليه السّلام بآية المباهلة (10).
• أثبتت وأكّدت واقعة المباهلة أنّ أكرم الخَلق على الله تعالى وأعزّهم وأشرفهم هم أهل بيت النبوّة، ومعدِن الرسالة، الذين خصّهم اللهُ تعالى بجميل عناياته وألطافه.. حتّى روت عائشة تقول: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله خَرَج وعليه مِرْطٌ مرَحَّل من شَعرٍ أسوَد، فجاء الحسن فأدخله، ثمّ جاء الحسين فأدخله، ثمّ فاطمة ثمّ عليّ.. ثمّ قال: إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عنكمُ الرِّجْسَ أهل البيتِ ويُطهِّرَكم تطهيرا (11). إذن.. فهمُ الأولى أن يتقدّموا، كما هُم الأولى من قِبل الناس أن يُقدَّموا.. وقد رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في مؤكّدات وصاياه قوله: إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تَضلّوا: كتاب الله، وعترتي.. فلا تَقَدَّموهما فتَهلِكوا، ولا تقصّروا عنهم فتهلِكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم (12).