في تاريخنا الإسلامي وقائعُ لها أهمية، ومنعطفاتٌ تشكّل لحظات مصيرية في تاريخ الأمة، وتؤثّر على وجدانها وثقافتها، وعلى واقعها الاجتماعي والسياسي. هذه الأحداث يمكن أن تكون مصداقًا لعنوان "أيام الله" الوارد في القرآن الكريم. ويمكننا ـ بكل ثقة ـ أن نَعُدَّ "يوم عاشوراء" مصداقًا بارزًا من بين تلك الأحداث، وذلك لما تحفل به هذه الحادثة من دروس وعبر وقيم للأمة وجماهيرها الواسعة. التعتيم على واقعة "عاشوراء":
حينما نقرأ التاريخ نجد أن بني أميّة كانوا يريدون التعتيم على هذه الحادثة، لينسى الناس ما حصل لأهل البيت(ع) في كربلاء، ومن أجل ذلك كانوا يعلنون ذلك اليوم عيدًا ويوم فرح وسرور، وهذا ما نجد الإشارة إليه في إحدى فقرات الزيارة الواردة عن الإمام الباقر ، حيث يقول فيها: "... اَللّـهُمَّ إن هذا يَوْمٌ تَبَرَّكَتْ بِهِ بَنُو أمَيَّةَ وَابْنُ آكِلَةِ الأكبادِ ". وورد في كتب التاريخ ـ كما ينقل أبو الريحان البيروني في الآثار الباقية، "فأما بنو أمية، فقد لبسوا فيه ما تجدد، وتزيّنوا، واكتحلوا، وعيّدوا، وأقاموا الولائم والضيافات، وأطعموا الحلاوات والطيبات، وجرى الرسم في العامة على ذلك أيام ملكهم، وبقي فيهم بعد زواله عنهم". ورووا في ذلك أحاديث وروايات موضوعة ومجعولة، كما يشير ابن تيمية، فيقول: ".. وإظهار الفرح والسرور يوم عاشوراء، وتوسيع النفقات فيه، هو من البدع المحدثة، المقابلة للرافضة"، وأضاف ابن تيمية، ".. وقد وُضِعَت في ذلك أحاديث مكذوبة في فضائل ما يصنع فيه، من الاغتسال والاكتحال إلخ ..." وقال: ".. وأحدث فيه بعض الناس أشياء، مستندة إلى أحاديث موضوعة لا أصل لها، مثل: فضل الاغتسال فيه، أو التكحل، أو المصافحة" . ومن أمثلة هذه الروايات الموضوعة ما رووه عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ?قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ? قوله: "وكان يوم الزينة يوم عاشوراء" .
وزعم البعض أن الاكتحال في هذا اليوم مانع من الرمد في تلك السنة . ولعل التفسير بيوم عاشوراء من البدع الأموية وإعلامهم المضلل للتغطية على الجريمة الكبرى التي صدرت منهم في كربلاء بحق سيد شباب أهل الجنة وأهل بيت الرسول (ص) ولأجل التصغير من حجمها والتقليل من شأنها. وهذا ما أثبته العيني في كتابه عمدة القاري حيث يقول: ما ورد في صلاة ليلة عاشوراء ويوم عاشوراء وفي فضل الكحل يوم عاشوراء لا يصح ومن ذلك من اكتحل بالأثمد وهو حديث موضوع وضعه قتلة الحسين.
اهتمام الرسول(ص) بعاشوراء:
ولكنّنا نجد في قبال هذه الأحاديث الموضوعة أحاديثَ صحيحة في مصادر المسلمين باختلاف مذاهبهم تبيّن اهتمام رسول الله(ص) وإعلانه لحزنه وألمه لما يحدث من بعده لسبطه الإمام الحسين(ع) يوم عاشوراء، وهذا مروي في المصادر الصحيحة المعتمدة عند أهل السنة وبأسناد صحيحة عندهم. من ذلك ما يذكره الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث ـ وهي لبابة زوج العباس بن عبد المطلب أول امرأة أسلمت في مكّة بعد أم المؤمنين خديجة ـ تقول أنها دخلت يومًا على رسول الله فقالت: "يا رسول الله، إني رأيت حلمًا منكرًا الليلة"، قال: "ما هو؟"، قالت:
"إنه شديد"، قال: "ما هو؟"، قالت: "رأيت كأن قطعة من جسدك قُطِّعَت ووضعت في حجري"، فقال رسول الله(ص) : "رأيت خيرًا، تلد فاطمة ـ إن شاء الله ـ غلامًا فيكون في حجرك " فولدت فاطمةُ الحسينَ فكان في حجري، كما قال رسول الله، فدخلت يومًا إلى رسول الله فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله تهريقان من الدموع، قالت: فقلت: "يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، ما لك؟" قال: "أتاني جبرئيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا. فقلت: "هذا؟" فقال: "نعم"، وأتاني بتربة من تربته حمراء". قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وأورد المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الحديث السابق في سلسلة أحاديثه الصحيحة تحت رقم 821 وعلّق عليه بقوله: "له شواهد عديدة تشهد لصحته، منها: ما عند أحمد بن حنبل (6/294) حدثنا وكيع قال: حدثني عبد الله بن سعيد عن أبيه عن عائشة أو أم سلمة، أن النبي قال لإحداهما: "لقد دخل عليّ البيت مَلَك لم يدخل عليّ قبلها، فقال لي: "إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها"، قال: فأخرج تربة حمراء". قال الألباني: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقال الهيثمي (9/187): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح". وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، حديث رقم 648، بسنده عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، أنه سار مع علي، وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، فنادى علي: اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله، بشط الفرات، قلت: "وماذا؟"، قال : "دخلت على النبي ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: "يا نبي الله، أأغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟"، قال:
"بل قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات"، قال: فقال: "هل لك إلى أن أُشمك من تربته؟" قال: قلت: "نعم". فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا". في هذه الأحاديث وأمثالها ما يدلُّ على أن رسول الله كان يهتمّ بيوم عاشوراء كواقعة، وهذا أمر كان بيِّنًا واضحًا لدى أمهات المؤمنين ولدى أصحابه وأهل بيته. وفي هذا يقول ابن عبّاس: "ما كنّا نشكُّ وأهلُ البيت متوافرون أن الحسين يقتل بالطف". كل هذا يدلُّ على أهمية الواقعة التي كان رسول الله(ص) يذكّر بها أصحابه وأهل بيته قبل وقوعها بنصف قرن من الزمان. بل هذا واضح من سيرة أهل البيت حيث اتخذوا هذا اليوم يوم حزن وبكاء، روي عن عبد الله بن سنان قال : دخلت على أبي عبد الله يوم عاشوراء ، فألفيته كاسف اللون ظاهر الحزن ، ودموعه تنحدر عن عينيه كاللؤلؤ المتساقط ، فقلت : مم بكاؤك؟ فقال: . أو في غفلة انت؟ أما علمت أن الحسين أصيب في مثل هذا اليوم ؟.
ماذا تمثّل عاشوراء في ضمير المسلمين؟
عاشوراء كواقعة من أهم الأحداث التي وقعت في تاريخ الأمة الإسلامية تمثّل لنا أمرين مهمّين، هما: - عظمة الموقف المبدئي الذي وقفه سيد الشهداء الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم، إذ كانوا قلّة قليلة، ولكنهم ضربوا أروع الأمثلة في الصمود والثبات، والالتزام بالقيم، والدفاع عن المبادئ، والاعتراض على الظلم والفساد والانحراف. ونحن حينما نتذكّر عاشوراء إنما نتذكّر هذه المواقف العظيمة السامية الرائعة. - بشاعة الظلم الذي وقع على أهل البيت وانتهاك حرمات الله في ذلك اليوم. فالإمام الحسين(ع) لم يكن رجلاً عاديًّا، وإنما له شخصيته ومكانته وموقعيته التي لا يجهلها أحد من المسلمين. كما أنه لم يمضِ وقت طويل على وفاة رسول الله ، الذي كان المسلمون يسمعون منه ويرون مواقفه التي يعبّر فيها عن حبّه للحسين وانشداده له. لقد قال رسول الله(ص) على مرأى من الصحابة ومسمع منهم: "إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا"، وفي صحيح البخاري في باب مناقب المهاجرين وفضلهم عن ابن عباس قال سمعت رسول الله يقول: (هما ريحانتاي من الدنيا) . وفي موضع آخر سمعوا قوله : "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما". وغيرها من الأحاديث التي كان يتذكّرها المسلمون ويروونها لبعضهم ويتناقلونها فيما بينهم. لذلك لا يمكن عَدّ ما حصل يوم العاشر من المحرّم من انتهاك للحرمات حدثًا عاديًّا، بل يجب التأمّل فيه جيدًا، والوقوف عند محطّات هذه الحادثة للاستفادة من أحداثها والدروس العظيمة التي تجلّت فيها.